فارس.. كفيف لا يرى مستحيلاً
الحياة مليئة بالقصص والحكايات التي يصلح كثير منها لسيناريوهات سينمائية بامتياز، وفي كثير من الأحيان يكون الواقع أكثر غرابة من الخيال، هذا هو حال بطل حكايتنا الذي لم تمنعه إعاقته البصرية من أن يحلم ويعيش ليرى حلمه يتحقق بين أطراف أصابعه. فارس عبدالله الهادي ذو الـ 30 عاماً التي أمضاها بين المعاناة والحلم، حكايته غريبة عندما تنصت إليها، لكنها منطقية بالنسبة لهذا الشاب الذي يملك من الإصرار والتحدي ما يجعل الأسوياء يقفون كثيراً عنده ليتعلموا كيف يتحقق المستحيل.
بصيص أمل
بدايته كانت حينما أدرك أنه ليس كغيره من الأطفال، إذ لم يبصر أمامه غير بضعة سنتيمترات، جعلته يرى بصيص نور وأمل وحسب، ولم يكن في وسع أهله غير الدعاء له ووضعه على بداية طريق العلم، في المدرسة أخذ ينصت كثيراً ويقوّي حواسه الأخرى لتعوضه شيئاً مما فقد، فأصبح قوياً في حفظ دروسه بمجرد الاستماع لها من مدرسيه، لدرجة جعلتهم يدركون أنهم أمام حالة خاصة، فقط مرة واحدة يسمع الدرس، وبسهولة يعيده على معلميه. مرت سنوات الدراسة وفارس لا يتنازل عن أحد المراكز الخمسة الأوائل، استعان فيها بالقراءة وتعليم ذاته وتثقيفها، وأقبل بنهم على قراءة الكتب، بمساعدة صديق كان يقرأ له ما يريد.
عاش في شارقة العلم، وتأثر بثقافة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، قرأ كتاباته، وعاش معه بخياله، وتأثر بما سمعه عنه من أيادٍ بيضاء رعى بها من هم في مثل حاله، باختصار أصبح سموه بالنسبة له حلماً، لكن حينها كان بعيد المنال، وكان أكثر أمانيه أن يطلب من والده أن يصحبه لحضور مناسبة يحضر فيها سموه، ليكون فقط قريباً منه. كبر الفتى وحصل على الثانوية العامة بمعدل مرتفع، ما يعتبر انجازاً لمن هم في مثل حالته.. لكن ماذا بعد؟ فالأسرة لديها من الالتزامات المادية ما يجعلها غير قادرة على تحمل المزيد، هكذا كانت أولى الصدمات، ورضخ فارس على غير رغبة منه، لكن ماذا يفعل، وهو قليل الحيلة. لكن بادرة الأمل تجددت في نادي الثقة للمعاقين الذي التحق به ليكمل طريقه بين زملاء يشاركونه إعاقته وآلامه.
تدريب وتأهيل
جميلة هي الصحبة، لكن الأجمل منها الاصرار على تحقيق الحلم، ومواصلة التعلم، فهو طوق النجاة الوحيد الذي يرضي طموحه في حب العلم، تحرك الشاب هنا وهناك يسأل كيف يكون الطريق لذلك، وكانت الإجابة في مركز تدريب وتأهيل المكفوفين «تمكين» التابع لهيئة المعرفة وتنمية المجتمع بدبي، الذي ساعده في الحصول على دورات خاصة بالكمبيوتر واللغة الإنجليزية، والتأهيل لبيئة العمل. بدأت الأمور تسير لكن ليس كما يتمنى، إذ فاجأه والده بأن يرافقه في العودة لبلده الأم بعد أن أحيل على المعاش، وهو الذي تربى في الشارقة، ونسج أحلامه فيها.. رفض العودة، فطالبه والده بإيجاد مخرج له يعفيه من العودة مع أسرته، فذهب فارس ليطلب من مسؤولي نادي الثقة للمعاقين أن يمنحوه وظيفة. ووفق في ما طلب وحصل على الإقامة والوظيفة وغرفة مناسبة تكون سكناً له، فوافق الأب بعد أن اطمأن على ابنه وأنه يسير على الطريق الصحيح.
أدرك فارس أن الحلم قد حان لتحقيقه، وهو الذي يحلم بدخول الجامعة، فتمسك بحلمه وذهب به إلى الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي المدير العام لمدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، طلب الشاب منحة جامعية، فكان له ما أراد، والتحق بجامعة الشارقة ليتخصص في العلاقات العامة والإعلام. التحق بالجامعة، ذاكر واجتهد، ولم ينسَ يوماً أنه لا يبصر، فكان التحدي الأكبر له، إذ سعى في إنشاء «جمعية الأمل لذوي الاعاقة» ليستظل بها كل طلاب الجامعة المعاقين، كبرت الفكرة فأصبحت «مركز الموارد لذوي الاعاقة»، وأمسى فارس سنداً لكل معاق داخل الجامعة يهتم بهم ويسعى لتوظيفهم بعد التخرج، فعرض المشروع على الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي، التي أثنت عليه ودعمته ليصل إلى سمو حاكم الشارقة الذي أمر بتنفيذه، ودعمه مالياً بمبلغ 5 ملايين درهم، إضافة الى مليونين ونصف بدأ المركز بها.
الحلم يتحقق
لطالما ظل حلم فارس مقابلة صاحب السمو حاكم الشارقة، وبعد مرور السنوات، لم يعد بعيد المنال، خاصة أنه حصل على تقدير امتياز مع مرتبة الشرف، فوقف يعد الأيام انتظاراً للحظة التكريم في حفل التخرج الذي يحضره سموه. في الحفل ينادي العريف على الطالب فارس الهادي كي يصعد على المسرح ليتسلم شهادة التخرج، وتضج القاعة بالتصفيق لهذا الشاب الذي قهر المستحيل وسطر قصة نجاح عظيمة، يصافح البطل يد سمو الحاكم، فيمر على مخيلته شريط سينمائي سجّل كل ما عاناه وما حققه طيلة مشوار كفاحه. أخيراً تحقق الحلم، وبقي حلم الماجستير حاضراً.
المصدر :
https://www.albayan.ae/across-the-uae/news-and-reports/2014-10-04-1.2214862